اللوجــوس
«لوجوس» كلمة يونانية تعني «قول» أو «كلام» أو «فكر» أو «عقل» أو «معنى» أو «دراسة» أو «علم» (وهذا المعنى الأخير هو المقطع «أولوجي ology» الذي يظهر في كلمات مثل «جيولوجي» أو «سيكولوجي»... إلخ بمعنى «علم الأرض» أو «علم النفـس»... إلخ. وقد تطوَّر معنى الكلمة ليصبح «الأسـاس» و«المطـلق» و«الحضور» (في مصطلح ما بعد الحداثـة). وسنلاحظ أن ثمة نمطاً أساسياً هو التأرجح بين اللوجوس كفكرة مجردة متجاوزة واللوجوس كتجسد وحلول وكمون.
1 ـ في العبادة اليونانية:
يبدو أن الكلمة تعود إلى العبادة اليونانية القديمة، فكلمة «لوجوس» فيها تشير إلى كلمة الإله أو الآلهة إذ هي تبليغ يأتي للنبي بالوحي الإلهي والحكمة والإرشاد، والنبي هو إنسان يوحى إليه بالكلمة المقدَّسة (لوجوس) ويوصلها للنـاس. لكن فكرة التبليغ بدأت في التراجع وبدأ التجـسد في التزايد فأصبح كلام النبي نفسـه لوجوس (وهذا الصراع، بين التبليغ والتجسد، هو صراع بين التوحيد والتجاوز من جهة، والحلولية الواحدية ووحدة الوجود من جهة أخرى).
2 ـ في الفلسفة اليونانية القديمة:
استخدم بعض الفلاسفة اليوانيين (هرقليطس مثلاً) هذه الكلمة، فأصبح اللوجوس المبدأ الذي يسير الكون من خلاله، وهو الذي يفسر الثبات وراء التغير والنظام وراء الفوضى. فالأشياء رغم تنوعها تحدث حسب اللوجوس. ويبدو أن هرقليطس كان يرى أن اللوجوس له وجود أو تجلٍّ مادي مثل النار، فكأن اللوجوس لم يعد كلمة أو مبدأ وإنما تجسُّد في الكون على هيئة عنصر. ويعتبر اللوجوس فكرة أساسية عند الرواقيين بنزعتهم الحلولية التي تقرن بين الإله والطبيعة. وهم، مثل هرقليطس، يرون أن اللوجوس قوة مادية في العالم (النار الأزلية) تسري في كل الكائنات باعتبارها مصدر الحياة أو العلة السببية والمشتركة، الخالقة والحافظة والمقومة لجميع الأشياء، والتي تُنظم الكون وتحقق التوازن بين العناصر كافة، فهي العناية الإلهية أو القصد الإلهي وهي أيضاً روح الإنسان. واللوجوس أزلية كما أنها روح الكون.
3 ـ اللوجوس أورثوس واللوجوس سبرماتيكوس:
من الاستخدامات الأخرى لكلمة «لوجوس»، اصطلاح «لوجوس أورثوس» أي «العقل السليم»، أو «الحجة السليمة» (وكلمة «أورثو» هي تلك الموجودة في كلمة «أورثوذكس» أي «العقيدة السليمة»). وقد استخدم السفسطائيون اصطلاح «لوجوس أورثوس» للإشارة إلى المبادئ والقواعد المنطقية التي ينبغي اتباعها للوصول إلى الاستنتاجات السليمة التي يمكن استخدامها لتقديم وجهة نظر ما بطريقة سليمة. وقد استخدم الرواقيون (من اليونانيين والرومان) العبارة اللاتينية «ريكتا راتيو recta ratio» للإشارة إلى النظام أو القانون السليم أو الضرورة التي يجب أن تمتثل لها أفعال الإنسان والعنصر العاقل الكامن في كل الأشياء. فكأن اللوجوس هنا هو الراتيو (التي اشتُّقت منها كلمة «راشيوناليزم rationalism» أي «العقلانية»).
وقد استخدمت الكلمة أيضاً في الفلسفة الرواقية في عبارة «لوجوس سبرماتيكوس logos spermaticus» بمعنى «الكلمة التي تعطي الحياة»، وهي عبارة تعني أن الكلمة بمنزلة البذرة أو المنيّ أو سائل الحياة الذي يُنثَر في العالم بأسره فيسبب الولادة والنمو والتغيُّر في كل الأشياء (وهنا تظهر واحدة من أهم مفردات الحلولية). وإذا كان العالم من منظور اللوجوس أورثوس يشبه الآلة التي تُدار من الخارج، فهو هنا يشبه الكائن الحي. وتحوي اللوجوس سبرماتيكوس سائل الحياة الذي يحوي بدوره عدداً غير متناه من الحيوانات المنوية تقوم كل واحدة منها بخلق أو توليد كيانات، لكلٍّ منها هدف مستقل، ومع هذا فهي جميعاً متناغمة متساوية.
4 ـ فيلون:
استخدم فيلون مفهوم اللوجوس باعتباره القانون قبل أن يُخلق ويُرسل إلى الأرض، والمثال والنموذج الذي خلق الإله العالم وفقاً له (كما يقول أفلاطون)، وهو أيضاً العقل الكوني قبل خلقه، والوسيط الذي خلق الإله العالم به (كما يصنع الفنان بالآلة) والذي نعرف الإله به وهو الشفيع لنا عنده. وهو كذلك ملاك الإله المذكور في التوراة الذي ظهر للآباء وأعلن لهم أوامره. ولكن اللوجوس مع تصاعُد معدلات الحلول يصبح كامناً في جميع المخلوقات، ولذا فهو العقل والعاقل والمعقول (وهو العبد والمعبود والمعبد).
ويمكن القول بأن اللوجوس هو الركيزة والمرجعية النهائية التي قد تكون إما كامنة في الطبيعة أو متجاوزة لها، أو كامنة فيها متجاوزة لها في آن واحد. وإن جاز لنا استخدام اللوجوس كمقولة تحليلية، ذات دلالة عامة في مجال مقارنة الأديان فيمكننا القول بأن اللوجوس هو النقطة التي يلتقي فيها الإله (المطلق) مع الإنسان (النسبي) داخل التاريخ والزمان ليتواصل معه وأن هذه هي الإشكالية الأساسية التي تواجهها كل الأديان ويحلها كل دين بطريقة مختلفة، نابعة من رؤيته. وقد أخذ اللقاء بين الإنسان (النسبي) والإله (اللوجوس و المطلق) في حالة اليهودية شكل حلول الإله في الماشيَّح وفي التوراة ثم في التلمود وأخيراً في الشعب اليهودي الذي يصبح بذلك مركز خلاص البشرية جمعاء. ثم تعمَّق المفهوم مع انتقال اليهودية إلى تربة مسيحية (فقد عاش معظم أعضاء الجماعات اليهودية ابتداءً من القرن الرابع عشر في أوربا). فازداد مفهوم اللوجوس مركزية وشيوعاً، ونجد أن التراث الحاخامي يجعل المشناه هي اللوجوس. أما التراث القبَّالي فيخلع هذه الصفة على الشعب اليهودي الذي لم يعد مجرد تجسد للإله بل أصبح جزءاً لا يتجزأ منه (والشخيناه هي الشعب اليهودي وهي أيضاً اللوجوس). ويرى القبَّاليون أن اسم الإله الأعظم (اللوجوس) هو أكبر تَركُز للحضور الإلهي ("في البدء كانت الكلمة"، أي أن الكلمة هي الأصل). ومن يفك شفرة هذا الاسم، ستتدفق فيه القداسة والحضور الإلهي ويمكنه الإتيان بالمعجــزات والســيطرة على العالم، مثل التسـاديك الـذي يُســمَّى «بعل شيم طوف»، وهي عبارة عبرية يمكن ترجمتها بعبارة «صاحب اللوجوس». ويرتبط السحر بين أعضاء الجماعات اليهودية بهذا المفهوم.
وفي اللاهوت المسيحي، أصبحت كلمة «لوجوس» تعني «المسيح وابن الإله قبل أن ينزل إلى الأرض»، وهو الأقنوم الثاني، وهو ليس منفصلاً عن الأب وإن كان متميِّزاً عنه. واللوجوس مخلوق من المادة الإلهية نفسها قبل بدء الخليقة. وهو موجود في عقل الإله ثم خرج إلى الكون. فالمسيح هو تجسد الإله (المطلق) في الزمان (النسبي) ينزل ويُصلَب ويقوم. وبعد قيامه، يعود المسيح إلى الأب، وتصبح الكنيسة (جسد المسيح) اللوجوس المتجسد، فهي معصومة والبابا (رئيسها) معصوم.
ويرى البعض أن اللوجوس في الإسلام هو القرآن (نقطة لقاء المطلق بالنسبي) على اعتبار أن القرآن هو كلمة الإله المطلقة وعلى اعتبار أنه كان قائماً بذات الإله باعتباره صفة من صفاته تعالى، ثم تشخَّص تلاوة وسماعاً وكتابة في الوجود الكوني. ويؤكد المسلمون أن هذه ليست حالة تجسد وإنما مجرد تبليغ وتذكير (لفظي)، فالعلاقة القائمة في حالة التجسد هي علاقة توالد (وهو ما عبَّر عنه القرآن بقوله: "وقالت النصارى المسيح ابن الله"، وجاء على لسان بني إسرائيل "نحن أبناء الله"). أما العلاقة بين كلام الله القائم بذاته والقرآن المتلو أو المكتوب في المصاحف فهي علاقة الدال والمدلول اللذين لا يلتحمان أبداً إذ تظل هناك مسافة بينهما، هي صدى للمسافة بين الخالق وكل مخلوقاته (الإنسان والطبيعة). والرسول (صلى الله عليه وسلم) ليس تجسداً، فهو ليس إلا حاملاً للرسالة المكتوبة ولا يكتسب أية عصمة وإن كان يكتسب مكانة خاصة لا تماثلها مكانة.
وتستند كل المنظومات المعرفية العلمانية إلى ركيزة نهائية (لوجوس) كامنة في المادة تكون بمنزلة العنصر الأساسي الذي يمكن من خلاله تفسير الكون. وهي ما يمكن تسميته «المطلق العلماني» وكلها تنويعات على المطلق العلماني النهائي: الطبيعة/المادة. والدولة في النسق الصهيوني هي اللوجوس الجديد (والعجل الذهبي) الذي يحل محل الإله في النسق الحلولي التقليدي. وتتهم فلسفة ما بعد الحداثة كل الفلسفات الغربية بأنها "متمركزة حول اللوجوس"، أي ملوثة بالميتافيزيقا، ويحاول أنصار ما بعد الحداثة تأسيس نسق فلسفي بدون لوجوس ومن ثم بدون مركز وبدون ميتافيزيقا بل بدون حقيقة.
موسوعة اليهودية و الصهيونية , ج1 ; الدكتور عبد الوهاب المسيرى